> محمد شعير:

  • ​ميرفت دهَّان: وصفته بشاعر المرأة أخفى جانبًا مهمًّا من إبداعه وهو الشعر السياسي
  • أحمد فضل شبلول: لم يقتصر على نقد الواقع العربي لكنه هجاه
الشاعر السوري الكبير نزار قباني، الذى وسمه كثير من النقاد بأنه (شاعر المرأة)، استنادًا إلى كم القصائد التي كتبها عنها، على مدى أكثر من خمسين عامًا تمثل عمر مسيرته الشعرية، لكن هذا الوسم أخفى جانبًا مهمًّا من شعره، هو الجانب السياسي، لا سيما عن فلسطين وقضيتها، وجعها وانكسارها والتنبؤ أيضًا بانتصارها.

لكن دراسة نقدية حديثة أعدتها الكاتبة السورية ميرفت دهَّان بعنوان «نزار قباني والقضية الفلسطينية» تشير إلى ما تغاضى عنه كثير من «نقاد نزار» ـ كما تقول ـ وهو أن ما حكم شعره على مدى حياته التزامان هما: المرأة والسياسة، حيث مزج بينهما فأصبحت الأم هي الوطن، وأول حدود الوطن هي المرأة، فالتحرير عنده يبدأ من المرأة، بتحريرها من كل قيود الاستعباد التي حاكها المجتمع حولها، وعندما تتحرر المرأة من كونها عيبًا يتحرر المجتمع وتتحرر عقول أبنائه وبذلك تسعى إلى تحرير الأرض، أي أن «نزار» جعل المرأة والسياسة وجهين لعملة واحدة.

«بكيتُ.. حتى انتهت الدموع/ صليتُ.. حتى ذابت الشموع/ ركعتُ.. حتى ملني الركوع/ يا قدس.. يا مدينة تفوح أنبياء/ يا قدس.. يا مدينة الأحزان/ يا دمعة كبيرة تجول في الأجفان.

وإذا كان نزار قباني المولود في حي مئذنة الشحم بدمشق يوم 21 مارس 1923 قد اتجه في بداياته إلى شعر الغزل والمرأة بشكل أكبر، تأثرًا بحادث انتحار أخته الكبرى «وصال» بسبب حرمانها من الزواج ممن تحب، وفقا لما كشفه في كتابه «قصتي مع الشعر»، فإن ضياع فلسطين في حرب 1948 قد أثر في نفسيته تأثيرًا كبيرًا.

وربما يكون «نزار» قد تأخر نسبيا في إظهار المكانة التي يحتلها الوطن فى نفسه، كما تقول ميرفت دهَّان في دراستها، إلا أن قصيدته «خبز وحشيش وقمر» التي كتبها عام 1954 بعد عشرة أعوام من بداياته الشعرية جاءت حاملة نقدًا عنيفًا قاسيًّا للعرب والوطن الذى ضيّع فى غمرة وهمه وكسله وسُكره فلسطين، وخدَّر عقله حين اقتات الأوهام ومضغها كالحشيش، حتى صار أول شاعر تناقش قصائده في البرلمان السوري، عندما طالب البعض بطرده من عمله الدبلوماسي في لندن، بعد قصيدته التي تعد أول إرهاصة تنبأت بهزيمة الخامس من يونيو 1967.

«ما الذى عند السماءْ/ لكُسالى ضعفاءْ/ يستحيلونَ إلى موتي../ إذا عاش القمرْ../ ويهزون قبور الأولياءْ».

جاءت الهزيمة في 67، فكانت الانطلاقة الواضحة لشعر نزار قباني السياسي، وكانت قصيدته الأشهر «هوامش على دفتر النكسة»، وفيها ـ وفقا للدراسة ـ تجسيد لتوليفة من التبخيس والشعور بالذنب والرغبة في الثورة والاقتصاص من الذات والآخر. وتتداعى نفسية الشاعر بين سراديب اليأس والإحباط فهو متخبط في همومه؛ تارةً يصب عدائيته على الحكام العرب ويهاجمهم حتى تغدو مفرداته سكاكين وطلقات رصاص من بندقية قهره الدفين، وتارةً أخرى نراه ساخرا من الشعب العربي المسحوق تحت عجلات الخوف والجبن مهملًا قضية فلسطين.

«يوجعني أن أسمع الأنباء في الصباح/ يوجعني.. أن أسمع النباح../ ما دخَلَ اليهود من حدودنا/ وإنما../ تسربوا كالنمل.. من عيوبنا».

وبينما حاول البعض الإيقاع بين نزار قباني ومصر بعد قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» إلا أن الشاعر السوري الكبير أرسل رسالة مطولة للرئيس جمال عبدالناصر بشأنها، ليستجيب الرئيس لرسالته ويكتب تعليماته بخط يده نصا: «لم أقرأ قصيدة نزار قباني إلا في النسخة التي أرسلها إلي، وأنا لا أجد أي وجه من وجوه الاعتراض عليها. تُلغى كل التدابير التى اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته ويُطلب إلى وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة. يدخل الشاعر نزار قباني إلى الجمهورية العربية المتحدة متى أراد ويُكرم فيها كما كان في السابق».

وفى نتاج نزار السياسي، يكثر الأسلوب الساخر، وبقى هذا الأسلوب يَسمُ شعره حتى آخر كلمة كتبها. والالتزام عنده فيه مفارقة لافتة، فهو رفض للخنوع المستتر في تضاعيف الماضي والحاضر معًا، وهو بحث دؤوب عن البطولات المتلألئة في مرايا الحجارة وفى أكف أطفالها؛ أطفال الحجارة في فلسطين، كما تشير الدراسة.

«بهروا الدنيا/ وما في يدهم إلا الحجارة/ وأضاؤوا كالقناديل/ وجاؤوا كالبشارة.

وحتى من قبل ثورة أطفال الحجارة بزمن، فإن الألم الكبير الذى ينضح به شعر نزار كان دوما ينعكس أملا في المستقبل، في جيل جديد، راهن عليه دومًا ورأى أنه قادر على صنع النصر واستعادة الأرض، لذا لم يكن غريبًا أن يختتم قصيدته المتفجرة تلك «هوامش على دفتر النكسة» بالأطفال، يخاطبهم برقة شديدة وحلم عميق.

«يا أيها الأطفال:/ يا مطر الربيع.. يا سنابل الآمال/ أنتم بذور الخصب في حياتنا العقيمة/ وأنتم الجيل الذى سيهزم الهزيمة...».

ويشير الكاتب أحمد فضل شبلول في مقدمته التي كتبها لدراسة «نزار قباني والقضية الفلسطينية» للكاتبة السورية ميرفت دهَّان إلى أن «نزار» لم يقتصر على هجاء الواقع العربي فحسب، لكنه يهجو الإسرائيليين هجاءً سياسيًا مقذعا، ويؤكد لهم في أكثر من قصيدة أن الفلسطينيين باقون في أرضهم، فما أحوجنا هذه الأيام، كما يقول شبلول، إلى تلك التأكيدات والتشبث بالأرض والوطن، أمام العدوان الإسرائيلي الجديد، ومحاولات التهجير الثاني للشعب الفلسطيني الذى لن يسمح بنكبة جديدة بعد نكبة 1948، أو كما يقول نزار....

«لن تجعلوا من شعبنا/ شعب هنودٍ حمر../ فنحن باقون هنا../ في هذه الأرض التي تلبسُ في معصمها/ إسورةً من زهر/ فهذه بلادنا../ فيها وُجدنا منذ فجر العمر/ فيها لعبنا، وعشقنا، وكتبنا الشعر».
"الأهرام"