وجد بعض الساسة فرصة للاغتراب.. بعضهم تشبّث بالوظيفة من أجل الغُربة فحسب، كالعاملين في السلك الديبلوماسي الفائضين عن الحاجة، الزائدين عن الطَّلَب.
سمعنا عن غُربة الوكلاء ونواب الوزراء، ومستشاري وأعضاء مجلس نواب وشورويين يتقاضون رواتب بالدولار، بينما هم نائمون.. في غُربة منحتهم إياها الحرب، وهم إذْ يستميتون للحيلولة دون عزلهم، فإنهم ليسوا أقلّ من أشقياء، رضوا بأن يكونوا مشرّدين طمعاً في المال الذي أوردهم المهالك.
نجزم أن هذا المواطن الفقير أكثر راحةً منهم، ولديه من السعادة ما يفوق عدد أرصدتهم.. إنه حر في بلده تحت سماه وفوق أرضه يشرب من مائه ويتنسّم هواه ويسير على ترابه.
هو سعيد رغم صَلَف سعر العملة وغلاء الأسعار وصراع الساسة المتشاكسون، أما السياسي المغترب فهو كالهارب من بلده، يلوذ بالعواصم والأقطار، بين نومٍ وسياحة منقوصة، لا تعدُ كونها شِبع بطن وبطانية للرُّقاد، وصوت موسيقى لا يطرب لهُ شريد مفارقاً لِربْعِه.
يعلِّق المواطن عن حال السياسي المغترب بقوله: "مغترب بلا مهرة"، "هَرَبَ من صوت الرصاص"، "يقول للدولار واماه"، "باع نفسه"، "شقي في ثوب سعيد"، "كرفتة حزينة".
قِيل إن مهنة الاغتراب سمة الشرعية اليمنية حتى سمعنا فيما مضى مصطلح "شرعية الفنادق".
كيف ستقف الحرب وهي تدرُّ مهنة الاغتراب، وتضخُّ مصاريف العيال ونفقات إيجار الشُّقَق والمعيشة.. هم الساسة رضوا بهذا الحال، وتماهوا مع طول الصراع، تبلّد لديهم الحِس بمعنى الوطن، مات كل شي في الأعماق، إلّا من مطعمٍ شهي، ومركبٍ وطي، وشقّة فارهة، لكن السياسي المغترب لا يستطيع أن يبتسم كالتهامي الذي يسكن في بيت من القش والعَزَف، ويرقص ملء روحه لموسيقى "واطائر أمغرب".
يرى المواطن أن ترفق الحكومة بهؤلاء "الفارغون" في المهجر، وأنْ تعيدهم إلى الوطن، فهم ليسوا كبقية المغتربين الذين يذهبون للبلدان طلباً للرزق الحلال، وينفعون أهلهم وأوطانهم، إنّ هؤلاء الساسة عالة على الشعب والوطن، ثُقلاء على الأرض التي يطأونها.
ما يدعو إلى الشفقة الآن مساعٍ إقليمية لتجميع أعضاء مجلس النواب من العواصم والبلدان لاستئناف جلسات البرلمان الذي شاخ وصار كالثوب الخَلِق.
طَمِعَ الساسة في عطايا الشرعية التي صنعت أكبر ظاهرة اغتراب في البلد، وأنفقت عليهم من قوت الشعب، وتبذل الآن أموالاً طائلة للملمة برلمان انتهت صلاحيته، بينما موظفي الدولة العاملين في الميدان بلا راتب منذ شهرين.
لو أن الساسة صمدوا في وطنهم، كما صمد بعض الشرفاء، لكان خيراً لهم من أيام المهانة والتسوّل بين الأقطار والأمصار، لكن ساروا خلف أطماعهم فأهلكتهم، يقول الناظم:
أطعتُ مطامعي فاستعبدتني
ولو أنّي قنعتُ لكنتُ حُرّا
يبقى على الشعب أن يسجِّل إحصائية بالساسة المغتربين، الذين ليست لهم وظيفة، وصاروا عبئاً على الوطن وميزانية الدولة، في أسوأ ظاهرة اغتراب يشهدها اليمن.
تحية للشعب الصابر المكافح، المطمئنة روحه، الساكن ضميره، ولا عزاء على الساسة المغتربون القلقون الحائرون.. عِظْهم يا حاتم الطائي وقُلْ لهم في أنفسهم قولاً بليغا، ألستَ من قال:
لَعمرُكَ ما يُغني الثراءُ عن الفتى
إذا حشرجتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ.